رحل
الكفار بهزيمتهم، وبقي بنو قريظة بخيانتهم للمسلين، وقبل أن يستريح
المسلمون من غزوة الأحزاب، وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم، جاء جبريل -عليه
السلام- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: أو قد وضعت السلاح يا
رسول الله؟ قال: نعم. فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد .. وإن
الله -عز وجل- يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد (ذاهب)
إليهم فمزلزل بهم. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي في
الناس: (لا يصلِّينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة) _[البخاري].
فأسرع ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين إلى يهود بني قريظة، وحاصروهم في
حصونهم، فلم يجد اليهود مفرًّا من المسلمين؛ ولم يجدوا ما يعتذرون به عن
خيانتهم التي كادت تهلك المسلمين، لولا توفيق الله لنعيم بن مسعود، وحاصر
المسلمون حصون بني قريظة، فملأ الرعب قلوبهم، وطلبوا أبا لبابة بن عبد
المنذر لما بينهم وبينه من صلة، يستشيرونه أينزلون على حكم محمد؟! فقال
لهم: نعم وأشار إلى حلقه، كأنه ينبههم إلى أنه الذبح، ثم أدرك أنه أفشى
سرًّا من أسرار المسلمين، وأنه قد خان رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأسرع إلى مسجد المدينة، وربط نفسه إلى عمود فيه، وحلف ألا يفك منها حتى
يتوب الله عليه فقبل الله توبته؛ وعفا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه.
واستمر الحصار خمسًا وعشرين ليلة، فلما رأى اليهود عزم المسلمين على
اقتحام حصن بني قريظة، قالوا: يا محمد نزل على حكم سعد بن معاذ، وكان سعد
سيد الأوس، وهم حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وقد توقع اليهود أن هذه
الصلة تنفعهم، وتوقع الأوس أيضًا أن زعيمهم سوف يتساهل مع حلفائهم
السابقين.
وكان سعد مصابًا في غزوة الخندق، فحملوه راكبًا إلى بني قريظة، وجاء إليه
قومه يوصونه بالإحسان إلى بني قريظة، فقال قولته الشهيرة: لقد آن لسعد ألا
تأخذه في الله لومة لائم، فعلم قومه أنه سيأمر بقتلهم، فنظر سعد إلى
اليهود وتذكر خيانتهم للعهد الذي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم،
فأعلن حكمه عليهم، بأن يقتل رجالهم، وتسبي نساؤهم وأبناؤهم، وتقسم أموالهم
على المسلمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم يا سعد
بحكم الله من فوق سبع سماوات) _[متفق عليه].
وهكذا كان حب سعد لدينه ونبيه أكبر مما كان بينه وبين اليهود من مودة في الجاهلية، وهكذا انتهت غزوة بني قريظة، ونزل قوله تعالى: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًا
عزيزًا . وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم
الرعب فريقًا تقتلون وتأسرون فريقًا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم
وأرضًا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرًا}[الأحزاب: 25-27].
زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة (زينب بنت جحش):
تبنى الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وزوجه بنت عمته
زينب بنت جحش، وكان الابن بالتبني له نفس حقوق الابن الأصلي، فله حق
الميراث، وزوجته تحرم على أبيه الذي تبناه، فأراد الله أن يمنع تلك
العادة، وأن ينسب الابن إلى أبيه، فشاء الله -سبحانه- ألا تستمر الحياة
الزوجية بين زيد والسيدة زينب -رضي الله عنهما- فوقعت بينهما جفوة وشقاق،
وكلما هم زيد بتطليقها نهاه صلى الله عليه وسلم، وقال له: أمسك عليك زوجك.
ثم طلقها زيد، ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج السيدة
زينب -رضي الله عنها- وبذلك بطلت عادة التبني، وما كان ينتج عنها من أمور تخالف الدين، قال تعالى: {إذ
تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في
نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها
وطرًا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا
منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً . ما كان على النبي من حرج فيما فرض
الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرًا مقدورًا .
الذين يبلغون رسالات ربهم ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله وكفي بالله
حسيبًا . ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبين وكان
الله بكل شيء عليماً} [الأحزاب: 37-40].
في شهر المحرم من العام السادس الهجري خرجت سرية من المسلمين إلى
بني بكر، فهرب بنو بكر خوفًا من المسلمين، وتركوا أنعامهم وإبلهم، فأخذها
المسلمون، وبينما المسلمون عائدون وجدوا أمامهم ثمامة بن أثال، ولم يكن قد
أسلم بعد، فقبض عليه المسلمون، وعندما وصلوا المدينة ربطوه في أحد أعمدة
المسجد، وعندما رأى ثمامة الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يطلقه
مقابل ما يريد من المال، وقال له: إن تقتل تقتل ذا دم (أي: رجلا له مكانة
في قومه وسوف يثأرون له) وإن تنعم تنعم على شاكر (أي رجل يعرف لك جميلك
ويكافئك عليه).
فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأطلق سراحه، فانصرف ثمامة، ولكنه
عاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وقال: أشهد أن لا إله
إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض
وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين
أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض
إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد
العمرة، وذهب ثمامة إلى مكة، فلما عرفوا أنه قد أسلم قالوا له: صبوت
(أي: فارقت دينك)؟ قال: لا والله .. ولكن أسلمت مع محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة (قمح) حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
ومرت الأيام، وأحاط الجوع بقريش، واحتاجت إلى القمح، فأرسلوا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يأمر ثمامة بإرسال القمح إلى قريش، ورغم أن
قريشًا حاصرت الرسول وقومه في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات، وأذاقوهم عذاب
الجوع، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قابل الإساءة بالإحسان ورفض
تعريض قريش للجوع، وأمر ثمامة أن يبيع لهم القمح.
غزوة بني لحيان
لكي لا يتجرأ
الكفار على المسلمين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان يريد
بني لحيان، وقد أظهر أنه متوجه إلى الشام؛ ليفاجئ القوم ولينتقم من الذين
غدروا بأصحابه يوم الرجيع، فلما سمعت هذه القبائل الغادرة بمقدمه هربت إلى
الجبال، ومكث المسلمون يومين، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض
فرسانه قريبًا من مكة؛ لتسمع بهم قريش، وليعلموا بما حدث فيزدادوا خوفًا
ورعبًا من المسلمين، ثم عاد المسلمون إلى المدينة.
في
العام السادس من الهجرة، وفي شهر ذي الحجة، خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم من المدينة متوجهًا إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وخرج معه
المهاجرون والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وليس معهم من السلاح إلا
السيوف، وقد ساقوا معهم الهدي (الذبائح)؛ ليظهروا حسن نيتهم ويُعْلِموا
أهل مكة أنهم جاءوا حاجين إلى البيت وزائرين له، ولم يأتوا لحرب أو قتال،
بل لأداء العمرة.
وصل الخبر بمسير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فإذا بقريش تفور من
الغضب والغيظ، فكيف يتجرأ المسلمون على المجيء إليهم، ودخول مكة بهذه
السهولة؟! فلا بد من صدِّهم ومنعهم من دخولها، وتعاهدوا على ألا يدخلها
النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه، وخرجت خيلهم يقودها خالد بن الوليد؛
لمنع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة.
وتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقوف قريش في وجه من قصد زيارة
الكعبة، فقال: (أشيروا علي أيها الناس) فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت
عامدًا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه
قاتلناه. فقال صلى الله عليه وسلم: (امضوا على اسم الله) وعقد العزم على
الجهاد، ولكنه لم يرد الصدام مع قريش، فقال صلى الله عليه وسلم: (من رجل
يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها) فقال رجل: أنا
يا رسول الله. فسلك بالمسلمين طريقًا غير الذي خرجت إليه جيوش المشركين._[ابن إسحاق].
وبينما رَكْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسير بأمر الله تعالى
بركت الناقة التي يركبها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان قريب من مكة
يسمى الحديبية، فقال الصحابة: خلأت القصواء (اسم ناقة الرسول صلى الله
عليه وسلم) خلأت القصواء .. فقال صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء
وما ذلك لها بخلق، لكن حبسها حابس الفيل) _[البخاري] وعلم رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن الله تعالى لا يريد له دخول مكة، ولا الصدام مع قريش في
ذلك الوقت، فقر التفاوض مع قريش في شأن دخول المسلمين مكة لزيارة البيت
الحرام، وقال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله
إلا أعطيتهم إياها) _[ابن إسحاق].
وعند بئر الحديبية تجمع المسلمون حول النبي صلى الله عليه وسلم وقد أصابهم
العطش، فماء البئر قليل لا يكفيهم، فشكوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فجلس
صلى الله عليه وسلم على حافة البئر، وتوضأ، ثم صبَّ الماء في البئر، فكثر
الماء وظلوا يشربون وتشرب إبلهم حتى تركوا الحديبية ورحلوا. _[البخاري].
أما قريش فقد أصابهم الفزع بعدما تأكدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم عازم
على دخول مكة، فأرسلوا إليه رسلا يستوضحون الأمر، وكان أول الرسل بديل بن
ورقاء الخزاعي، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد
ولكن جئنا معتمرين .. يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا
بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني
الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما
تظن
قريش، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة (يقصد: الموت)) _[ابن إسحاق].
وكان آخر الرسل عروة بن مسعود الثقفي عم الصحابي المغيرة ابن شعبة، وإذا
به يقف مبهورًا من طاعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتماسكهم
وقوة إيمانهم، فعاد إلى قومه يقول لهم: أي قوم، والله لقد وفدت على
الملوك، على كسرى وقيصر والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه
ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله ما تَنخَّم (بصق) نخامة إلا وقعت في كف
رجل منهم فدلَّك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وما يحدُّون
النظر إليه تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ليشرح لقريش
ما يريده المسلمون، وإذا بالمشركين يعرضون على عثمان أن يطوف وحده بالبيت،
ولكنه رفض أن يطوف وحده دون المسلمين، فاحتبسته قريش عندها، فلما طالت
غيبته ظن المسلمون أن الكفار قتلوه، فاجتمعوا حول نبيهم صلى الله عليه
وسلم وبايعوه على القتال حتى الاستشهاد في سبيل الله، وفيهم نزل قوله
تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا} [الفتح: 18]
شروط الصلح:
وعلمت قريش بهذه النية، فخافت وأطلقت عثمان على الفور، وأرسلت
سهيل بن عمرو، وكان رجلا فصيحًا عاقلا يجيد التفاوض، فلما رآه الرسول صلى
الله عليه وسلم قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما جاء
سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما طويلا ثم جري بينهما
الصلح، فاتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على:
- أن يرجع المسلمون هذا العام ويعودوا في العام القادم.
-وأن تتوقف الحرب بينهما لمدة عشر سنوات.
-وأن من أراد أن يتحالف مع المسلمين فله ذلك، ومن أراد التحالف مع قريش فله ذلك.
-وأن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم من جاء إليه من قريش دون
إذن وليه، ولا ترد قريش من يأتيها من المسلمين.
وعند سماع عمر بهذه الشروط أتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟
قال: بلي. قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أو ليسوا بالمشركين؟
قال: بلي. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم
غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. _[متفق
عليه].
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال له اكتب: بسم الله
الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال
الرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا
ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول
الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال صلى الله عليه وسلم:
اكتب. هذا ما صالح عليه محمدُ بن عبدالله، سهيلَ بن عمرو. فرفض على أن
يمحو كلمة رسول الله بعد ما كتبها، فمحاها الرسول صلى الله عليه وسلم
بنفسه. _[متفق عليه].
وبهذا الصلح دخلت قبيلة خزاعة في عهد المسلمين ودخلت قبيلة بني بكر في عهد
المشركين، وقبل أن يوقع الرسول صلى الله عليه وسلم على كتاب الصلح إذا
بأبي جندل بن سهيل بن عمرو يأتي مسلمًا، فلما رآه أبوه سهيل؛ قام إليه
فضرب وجهه، وأخذ بثيابه، ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية (أي حسمت) بيني
وبينك قبل أن يأتي هذا. قال: صدقت.
فأخذ سهيل يجر ابنه ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا
معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال صلى الله عليه
وسلم: (يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من
المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم
على ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم) _[ابن إسحاق] وغضب المسلمون
من هذا الصلح، فقد بَدَت الشروط في أعينهم ظالمة، فقال لهم الرسول صلى
الله عليه وسلم: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يُضَيِّعني)
[البخاري].
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة المعاهدة، قال للمسلين:
(قوموا، فانحروا) وقالها ثلاثًا، فلم يقم أحد، فغضب الرسول صلى الله عليه
وسلم، ودخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله
أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك
فيحلقك. فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج فلم يكلم أحدًا حتى نحر
بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا إبلهم، وجعل
بعضهم يحلق لبعض. [أحمد].
ولكن هل التزم المسلمون والمشركون بشروط هذه المعاهدة؟ لقد ضاق المسلمون
المعذبون في مكة بمقامهم بعيدًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين
في المدينة، فر منهم أبو بصير عبيد الله بن أسيد، وهاجر إلى المدينة يبغي
المقام فيها مع المسلمين، فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها، ليعودا به
إليها تنفيذًا لشروط الصلح، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا أبا
بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا
الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق
إلى قومك) _[ابن إسحاق].
وحزن أبو بصير وقال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين ليفتنوني في ديني؟
فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم عن تكرار رجائه في الفرج القريب، ثم
أرسل أبا بصير مع القرشين ليعودوا جميعًا إلى مكة، فاحتال أبو بصير أثناء
الطريق على سيف أحد الحارسين وقتله به، فر الآخر مذعورًا، ورجع إلى
المدينة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع من أبي بصير، وإذا بأبي
بصير يطلع شاهرًا السيف يقول: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك،
أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن أو يعبث بي، فقال صلى الله عليه
وسلم: (ويل أمه (كلمة مدح) مُسَعِّرُ حرب (أي مشعل حرب) لو كان معه رجال)
_[أحمد].
وأدرك أبو بصير أنه لا مقام له في المدينة، ولا مأمن له في مكة، فانطلق
إلى ساحل البحر في ناحية تدعي (العيص) وشرع يهدد قوافل قريش بطريق الساحل
وسمع المسلمون بمكة عن مقامه، فتلاحقوا به حتى اجتمع إليه نحو سبعين
ثائرًا كان منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وكونوا جيشًا ضَيقَ على قريش
فلا يظفر بأحد إلا قتله، ولا تمر بهم قافلة إلا اقتطعوها، فأرسلت قريش إلى
النبي صلى الله عليه وسلم تناشده أن يؤوي إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم.
وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتًا وقبله المسلمون كارهين، وهذا
هو أول الفتح على المسلمين، فقد تأكد لهم بعد ذلك أن المعاهدة كانت
لصالحهم، وأنها أتاحت لهم فرصة لنشر دينهم بعيدًا عن الانشغال بالحرب مع
قريش.
إسلام أبي العاص بن الربيع:
وعندما كان أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما في المكان الذي اجتمعوا فيه عند
ساحل البحر، مرت بهم قافلة تجارية لقريش بقيادة أبي العاص بن الربيع زوج
السيدة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت قد فارقته؛ لأنه كان
مشركًا، وهاجرت وحدها إلى المدينة.
فهاجم أبو جندل ومن معه القافلة وأسروهم وأخذوا ما معهم من أموال، ولم
يقتلوا منهم أحدًا إكرامًا لأبي العاص، وأخلوا سبيله، فقدم أبوالعاص
المدينة واستجار بزينب، فكلمت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب قائلا: (إنا صاهرنا أناسا،
وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له
من قريش، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير، وأخذوا ما كان معهم، ولم يقتلوا منهم
أحدًا، وإن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا
العاص وأصحابه؟) فقال الناس: نعم. فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول الرسول
صلى الله عليه وسلم أطلقوا من كان عندهم من أصحاب أبي العاص وردوا إليهم
أموالهم.
ثم خرج أبو العاص حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس بضائعهم، ثم أعلن
إسلامه، وعاد أبو العاص إلى المدينة مسلمًا، فرد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم زوجته زينب -رضي الله عنها
لم يهدأ يهود خيبر عن الكيد ضد الإسلام،
فكوَّنوا جبهة معادية للمسلين، واستمالوا قبيلة غطفان والأعراب المجاورين
لهم في شمال المدينة، فخرج النبي ( على رأس جيش لتأديبهم والقضاء على
خطرهم. وكانت تلك الموقعة الرابعة بين المسلمين واليهود، فالأولى كانت مع
يهود بني قينقاع، والثانية مع بني النضير، والثالثة مع بني قريظة.
وبينما كان المسلمون يسيرون في الطريق إلى خيبر، أخذ عامر ابن الأكوع ينشد ويقول:
اللهمَّ لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداءً لك ما اقتفينا
وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا
وألَقينْ سكينة علينا
إنا إذا صيح بنا أَتينا
وبالصَّباح عَوَّلوا علينا
فقال رسول الله (: "من هذا السائق؟" قالوا: عامر بن الأكوع. قال: يرحمه الله. [متفق عليه].
وأراد الرسول ( أن يقسم جبهة الأعداء المؤلفة من اليهود وغطفان، فأوهم
غطفان أن الهجوم متجه إليها، فرجعوا إلى ديارهم بعد أن خرجوا لينضموا إلى
اليهود في خيبر. وهكذا نجحت خطة النبي ( في عزل اليهود عن حلفائهم
المشركين.
فلما أشرف رسول الله ( على خيبر قال لأصحابه: فقوا. ثم تضرع إلى الله بهذا
الدعاء: "اللهمَّ رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقلن، ورب
الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية
وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها".
وصل المسلمون إلى حدود خيبر ليلاً، فمنعهم إيمانهم من أن يهاجموا أعداءهم
فجأة بليل فانتظروا حتى الصباح، وفي الصباح خرج اليهود إلى مزارعهم،
فوجئوا بالمسلمين يحيطون بلدهم، فأسرعوا إلى حصونهم وهم يصرخون: محمد
والله، محمد والخميس (الجيش). فقال رسول الله (: "الله أكبر خربت خيبر،
إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" [متفق عليه].
وشنَّ المسلمون هجومًا قويًّا على حصون خيبر المشيدة، فسقطت في أيديهم
حصنًا بعد حصن، حتى لم يبق منها غير حصون قليلة قوية اعتصم بها اليهود،
وصعب فتحها على المسلمين، فقال رسول الله (: "لأعطين الراية غدًا رجلاً
يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله".
فبات الناس يتساءلون: أيُّهم يُعطاها؟ فلما أصبحوا تطلعوا إلى أخذها. فقال
النبي (: "أين علي بن أبي طالب؟" فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال:
"فأرسلوا إليه".
فأتي به، فبصق رسولُ الله ( في عيني علي ودعا له، فشفي حتى كأن لم يكن به
وجع، فأعطاه الراية، فقال (: "انفذ إليهم حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى
الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى، فوالله لأن يهدي الله
بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعم" [متفق عليه]. ثم خرج عليٌ فقاتل،
فكان الفتح على يديه ولم يبق إلا حصنان، ظل المسلمون يحاصرونهما، حتى أيقن
من فيهما بالهلاك، فطلبوا أن يخرجوا ويتركوا الأموال مقابل أن يتركهم
المسلمون، فوافقهم الرسول ( على ذلك.
ثم سألوا رسول الله ( أن يبقى خيبر تحت أيديهم يعملون فيها ويزرعون؛ لأنهم
أعرف بأراضيهم ولهم نصف ما يخرج منها، فصالحهم رسول الله ( على ذلك، وقال
لهم: "على أنا إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم" [متفق عليه].فأقروا بذلك.
وبعد أن صالحهم رسول الله (، أهدت إليه امرأة منهم شاة مشوية وكانت قد
سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله (؟ فقيل لها: الذراع. فأكثرت
فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة وجاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول
الله ( تناول الذراع، فأوحى الله -عز وجل- إليه بأنها مسمومة.
فجمع النبي ( اليهود فقال لهم: "إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟"
فقالوا: نعم. قال لهم النبي (: "من أبوكم؟". قالوا: فلان. فقال:"كذبتم، بل
أبوكم فلان". قالوا: صدقت. قال: "فهل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألت عنه؟"
فقالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سُمًّا؟" قالوا:
نعم. قال: "ما حملكم على ذلك"؟ قالوا: إن كنت كاذبًا تستريح، وإن كنت
نبيًّا لم يضُرَّك